دانيال إسترين

تحذير: يحتوي المقال على مشاهد عنيفة

قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إنها تجنبت إصابة المدنيين خلال إحدى أكثر العمليات العسكرية شهرة مؤخراً ولكن الإذاعة الوطنية العامة "إن بي أر" NPR، حصلت على وثائق سرية تكشف عن عيوب في إدعاءات البنتاغون أن الضربات الجوية الفتاكة لم تصب أبرياء.

قصفت القوات الخاصة الأمريكية عام ٢٠١٩ مخبأ أبو بكر البغدادي٬ زعيم تنظيم داعش٬ في محافظة إدلب شمالي غرب سوريا، ما دفع البغدادي لتفجير نفسه. قال الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب أن الغارة كانت "مثالية"، فيما قال المسؤولون العسكريون أن القوات الأمريكية حمت أرواح المدنيين.

وقد نفى البنتاغون تقريراً نشرته "إن بي أر" أن نيران مروحية أمريكية شوّهت وقتلت مدنيين سوريين في هذه العملية، كما وأضافت الوزارة أن المستهدفين كانوا مقاتلين أعداء تجاهلوا النيران التحذيرية.

لاحقاً، رفعت "إن بي أر" دعوى قضائية٬ وفقا لقانون حرية المعلومات الأمريكي٬ ضد البنتاغون مُطالبة برفع السرية عن المستندات المتعلقة بالغارة الجوية، وحصلت خلالها على نسخة من التقرير السري والذي كان تصنيفه محظور لمواطني دول أجنبية غير أمريكيين.

كشفت المستندات التي حصلت عليها "إن بي أر" ، بما في ذلك صور الاستطلاع الجوي، ما يلي:

١. أطلقت القوات الامريكية النيران التحذيرية لعدة ثوانٍ فقط قبل شن غارات جوية على شاحنة يستقلها مدنيون سوريون. وهذا يقوّد تأكيد الجيش بأن ركاب الشاحنة أظهروا عداءً من خلال عدم توقفهم أو تغيير مسار تحركهم.

٢. لم تقدم وزارة الدفاع أية أدلة تثبت أن الضحايا كانوا "مقاتلين أعداء" بخلاف التقدير اللحظي المستعجل الذي قامت به القوات الأمريكية وسط ظلام الغارة الليلية.

٣. لم تتبع السلطات الأمريكية التوصية بإعداد ملف استخباراتي، لدعم الادعاء أن الضحايا كانوا "محاربين عُدوانيين غير قانونيين".

٤. طعنت وزارة الدفاع في صحة الشهادات التي جمعتها "إن بي أر" من الناجي الوحيد من الغارة ومن أسر الضحايا، دون أن تقوم بالتواصل مع الضحية أو إجراء تحقيق رسمي كامل.

تحذير: يحتوي التحقيق ادناه على مشاهد قاسية

يقول لاري لويس من مركز التحليلات البحرية أنه "على مدار عقدين٬ استصعب الجيش الامريكي التعامل مع مسألة تصعيد القوة وقد قُتل مدنيون عدة باعتبارهم بشكل خاطىء تهديدا." وأضاف لويس الذي قدم المشورة للولايات المتحدة حول كيفية الحد من إزهاق أرواح المدنيين خلال العمليات العسكرية "هذا الحادث هو واحد من العديد من الحوادث المشابهة."

عندما عرضت "إن بي أر" مستخلصاتها٬ أصدرت القيادة المركزية الأمريكية عبر المتحدث باسمها، الرائد جون مور، بياناً ينص على أن القيادة لم تصدر أمراً بإجراء تحقيق رسمي في الحادثة لأنها "اعتبرت الادعاءات بإصابة ضحايا مدنيين غير موثوقة". وأشارت القيادة في بيانها أنه ليس لديها أي خطط لإعادة تقييم الادعاءات، وأنها "لن تقدم المزيد من المعلومات."

في أعقاب إستفسار "إن بي أر"، أعلنت منظمة غير ربحية الشهر الماضي، عن تلقيها إشعاراً من البنتاغون حول نية الأخير النظر في طلب المنظمة بإعادة فتح التحقيق بقضية خسائر أرواح المدنيين خلال العملية.

ملخص تحقيق الإذاعة الوطنية العامة، "إن بي أر" NPR

المكان الخطأ في الزمان الخطأ: رجل سوري في طريقه إلى المنزل

صرح قائد العملية العسكرية، الجنرال كينيث ماكينزي، بعد أيام من الغارة أن مقاتلين غير منتسبين لداعش اتجهوا بشاحنة إلى الموقع، وأشار الى "تدمير الشاحنة بعد أن تقدمت نحو القوات الأمريكية وأظهرت نيةً عدائية."

إلّا أن الناجي الوحيد من الغارة، بركات أحمد بركات، 39 عام٬ قال للإذاعة أنه وصديقين له يعملون مزارعين في معصرة زيتون وكانوا يستقلون شاحنتهم٬ عائدون إلى منازلهم في قرية حتان سالكين المسار الأقصر- طريق قرية باريشا.

وقال بركات إلى أنه وأصدقائه لم يكونوا على علم باختباء البغدادي في منزلٍ على بُعد مئات الأمتار من الطريق أو بتواجد قواتٍ أمريكيةٍ في المكان، مشيراً إلى أنهم فزعوا عندما تعرضوا للقصف، وفروا من الشاحنة ليتم استهدافهم مرة أخرى.

"لم يكن هناك أي إشكال٬ تقدمنا في الطريق بشكل عادي٬" قال بركات. وأضاف: "فجأة٬ شعرت أن شيئاً ضرب بنا."

قتلت النيران الأمريكية صديقي بركات، خالد مصطفى قرمو٬ 27 وخالد عبد المجيد قرمو٬ 30. فيما تفجرت كف يده اليمنى وأصيبت يده اليسرى بشدة.

لم تكشف مستندات البنتاغون عن نوع الطائرة التي استهدفت الشاحنة٬ إلا أن مسؤولين في وزارة الدفاع قالوا إن طائرات من نوع مروحيات هجومية شنت الغارة.

نيرانٌ تحذيريه غير كافية

وفقا لتقرير مصداقية الخسائر البشرية للقوات الأمريكية بين المدنيين، الصادر بتاريخ 9 حزيران 2020، فأن بركات وأصدقائه شكلّوا تهديدًا لأنهم لم يراعوا إطلاق النار التحذيري. ولكن النيران التحذيرية لم تقدم تحذيرًا كافيًا، وفقًا لتحليل مستقل أجرته "إن بي أر".

ويشير تقرير مصداقية الخسائر أن القوات الأمريكية قامت برشق 'سلاح منع دخول المنطقة' بالقرب من القرية التي مرت بها الشاحنة، ، كتحذير أولي بهدف إبقاء المدنيين في منازلهم، ولكن بركات قال أنه واصدقائه لم يروا هذا التحذير.

و حسب التقرير، في الساعة 11:26 مساءً بتوقيت سوريا، رصدت القوات الأمريكية شاحنةً تقترب من مفترق طرق قريب من موقع القوات٬ حيث كانت قبل لحظات اشتباكات مع مسلحين. اتجهت الشاحنة نحو مخبأ البغدادي على بعد حوالي 344 متر من القوات البرية. راقبت القوات الأمريكية الشاحنة الى ان تقدمت لمسافة 165 متر، دون أن تتخذ أي إجراءات لتفادي الشاحنة.

ثم في الساعة 11:27 مساءً، أطلقت المروحية عيارات نارية على بعد 15 متر امام الشاحنة التي أصيبت واستمرت بالتقدم [نحو الغرب]. تشير الصور الجوية في تقرير مصداقية الخسائر إلى أن النيران التحذيرية كانت على مسافة 15 إلى 20 متراً قبل الشاحنة، مما قد يعطي السائق ثانيتين او ثلاث ثواني فحسب لتغيير مساره على طريق غير مضاء.

وفقا لشرح لاري لويس٬ مستشار سابق في وزارة الدفاع والذي أجرى العديد من الدراسات عن خسائر أرواح المدنيين في العمليات العسكرية: "يريدون إيقاف الشاحنة. ولكن ماذا يستخدمون؟ يستخدمون القوة القاتلة... والنتيجة، تصعيد أساسه سوء الفهم."

القوات الأمريكية تقول إنها استهدفت الرجال أثناء هربهم بعدما بدا أن الشاحنة تحمل أسلحة، ولكنها تقول أيضا إنها لا تملك دليلاً على ذلك

بعد قصف الشاحنة كان "تقييم الطيار الأمريكي إن انفجارات ثانوية تشير إلى وجود أسلحة ومتفجرات على متن المركبة" وقد فر الرجال من الشاحنة بعد تعرضها لنيران مروحية استمرت في استهدافهم٬ وهذا بحسب تقرير البنتاغون.

ويشير التقرير أيضاً إلى أن وزارة الدفاع لم تتمكن لاحقاً من تحديد طبيعة تلك الانفجارات التي صدرت عن الشاحنة. ولم يشير التقرير أن المحققين الأمريكيين زاروا موقع الحادث. وقال بركات أن الشاحنة لم تحمل أية أسلحة.

تراجعت الولايات المتحدة عن ادعاء زعم إطلاق نار من شاحنة بركات. حيث كان قد صرح مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية عام ٢٠١٩ أن "التقارير الأولية" قد أفادت بأن [ركاب] الشاحنة أطلقوا النار على المروحيات الأمريكية. لكن "إن بي أر" حصلت على بريد الكتروني من عام 2020 بعد رفع السرية عنه٬ ينص على أن مسؤولاً أمريكياً نفى إطلاق النار من قبل الشاحنة.

بحسب لويس: "عندما يرى عناصر الجيش فرداً أو مركبة٬ يعتبرونه هدفاً معادياً يشكل تهديداً، ولكنهم مخطئون." وأضاف، "هذا ما يسمى خطأ في تحديد الهوية، و هكذا كنت سأعرّف الذي حصل هنا."

وكانت قد قدّمت القوات الأمريكية ادعاءً مماثلاً حول انفجار ثانوي تلى غارة جوية بطائرة مُسيّرة أودت بحياة مدنيين خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام ٢٠٢١، قبل أن تعترف لاحقاً بخطأ مزاعمها.

توصيات بإعداد ملف استخباراتي لم تستكمل

تتضمن الأسطر الأخيرة لتقرير البنتاغون، توصية بأن يقدم المسؤولون الأمريكيون "تقريراً قصيراً - مُصنف (تي إس) سري للغاية - يتطرقون فيه بالتفصيل لتشخيص الجرحى والقتلى على أنهم محاربون عدوانيين غير شرعيين، في حال توفرت معلومات استخباراتية تدعم ذلك." ويضيف المحلل غير معروف الهوية في تقريره أن "هذه المعلومات، في حال توافرها، يمكن استخدامها لإعطاء صورة أفضل لصُناع القرار الرئيسيين في وزارة الدفاع، نظراً للصدى الكبير للغارة والادعاءات حولها."

يرى لويس، المستشار السابق في وزارة الدفاع، أن هذه التوصية تكشف عن حالة عدم اليقين في الادعاء المركزي للبنتاغون.

تشير هذه [التوصية]٬ بشكل أو بآخر٬ الى تساؤلات لدى الكاتب،" يشرح لويس: "لماذا نصّر على أن الأشخاص الذين استخدمنا القوة ضدهم كانوا مقاتلين٬ ما هو الدليل على ذلك؟ أو مدنيين كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ؟"

رداً على استفسار قدمته "إن بي أر"٬ كشفت القيادة المركزية في آذار 2023 عن عدم وجود سجلات تشير إلى صياغة أي 'تقرير سري للغاية'.

وزارة الدفاع تشكك في رواية الناجي دون التواصل معه

رفض البنتاغون مستخلصات تقرير إن بي أر ، وأشار إلى وجود تناقض بين عدد الضحايا المذكور في تقرير "إن بي أر" والتقارير الأخرى. من الممكن أن تكون تلك التقارير حسبت مجموع المصابين في لحظات أخرى في العملية بشكل عام. كما شكك البنتاغون في صحة مصادر الإذاعة، دون إجراء مقابلات مع سوريين، ومن ضمنهم بركات.

تقول بريانكا موتابارثي إنه "لا يبدو أنهم [البنتاغون] قاموا فعلاً بتقييم حالة الرجال أو إجراء تحقيقات جادة حول ما إذا كانوا مدنيين أم لا." وتضيف موتابارثي وهي مديرة مشروع مكافحة الإرهاب والنزاع المسلح وحقوق الإنسان في كلية القانون بجامعة كولومبيا، "كان بإمكانهم أن يقوموا بالمزيد من الجهود للتأكد من سلامة الادعاءات، نظراً لحساسية القضية ومزاعم سقوط المدنيين التي ترافقها."

يقول المستشار القانوني السابق لوزارة الدفاع٬ رايان غودمان أن " تحليل البنتاغون يركز على معقولية تصرف القوات العسكرية في "ضباب الحرب" ومع المعلومات المتاحة أمامهم. ولا يتطرق لتقييم صحة القرار الذي أدى إلى خطأ في تحديد هوية المقاتلين والى مصرع المدنيين.

توجه أمريكي جديد لكبح الخسائر في أرواح المدنيين

يقول بركات، الذي تعرض لإصابات بالغة في كلتا ذراعيه، حيث بترت ذراعه اليمنى انه خضع لعملية جراحية هذا العام لإزالة شظية من ذراعه اليسرى. ويشير مركز زوميا الذي يدافع عن الضحايا المدنيين للضربات العسكرية، أن بركات لم يعد قادراً على تحمل تكاليف العلاج الفيزيائي والتي تكلف ٨ دولارات للجلسة الواحدة. يضيف المركز أن إصابة بركات جعلته غير قادر على العمل لإعالة أطفاله الخمسة الصغار أو حتى توفير الغذاء لهم.

يقول بركات: "لقد أصبت ودُمر مستقبلي. لدي عائلة وأطفال. ما ذنبهم؟" يأمل بركات في الحصول على تعويض من الولايات المتحدة.

أصدرت وزارة الدفاع الاميركية العام الماضي خطة جديدة لكبح الخسائر في أرواح المدنيين وإبتكار طرق جديدة لتعويض الضحايا، في أعقاب تحقيقات نيويورك تايمز حول الضحايا المدنيين للغارات الجوية.

في حوزة مركز زوميا إيصالات تؤكد أن بركات كان يعمل في نقل الزيتون إلى المعصرة قبل أيامٍ من الغارات الجوية، حيث قدمت المنظمة العام الماضي طلب لوزارة الدفاع بمراجعة الحادثة دون الحصول على جواب.

بعد استفسار "إن بي أر"، أخبر البنتاغون المركز٬ الشهر الماضي ٬ عن نيته بالنظر في الطلب جوانا نايبلس-ميتشل، مديرة مشروع "تعويض الناجين من الغارات الجوية الأمريكية والتحالف" في المركز.

تعتبر نايبلس-ميتشل أن "الجيش مدين لبركات بالكثير"، مضيفة أن القوات العسكرية "لم تتخذ حتى الإجراءات الأولية للتأكد من صحة مزاعمهم" بشأن تلك الليلة.


‏ترجمة: مجد الوحيدي، واشنطن

‏مساعدين في الترجمة: نهى مصلح، أنس البابا

‏تحرير: سهى خليفة

Copyright 2023 NPR. To see more, visit https://www.npr.org.

300x250 Ad

300x250 Ad

Support quality journalism, like the story above, with your gift right now.

Donate